عربينا

تساؤلات المغترب حول العربيه في المهجر

تاريخ الكتابة العربية

بداية، الـ”كتابه” ليست جزءا اصيلا من اللغه. فاللغه دوما في الاساس مشافهه، والانسان الاول منذ القدم استخدم الاصوات كلغه للتواصل قبل اختراع الكتابه بالاف السنين.

والعرب خصوصا كانوا دائما يسمون اللغه “لسان” حتى ان كلمه “لغه” كلمه حديثه على العربيه لم يستعملها العرب من قبل. فأول معجم عربي هو “لسان العرب” والقرآن يتباهي انه انزل “بلسان عربي مبين” والمسلمون يسمون اختلافاته “قراءات” لا كتابات. حتى ان اختلافات النحو والمفردات بين قبائل العرب القديمه كانت تسمى “لسن” القبائل، كلسان قريش ولسان تغلب وغيرهما.

اللغه اذا هي اللفظ بالاساس. اما الكتابه فلا تتعدى كونها رسما للّفظ على الورق.

و”رسم اللفظ على الورق” هذا ليس ثابتا بل مرن متغير عبر الزمن. فالكتابه العربيه بالذات مرّت بتغييرات جذريه عبر العصور، خصوصا بعد الانفجار السكاني للدوله الاسلاميه ودخول الكثير من غير العرب فيها، وذلك خوفا على النص القرآني من لحن المسلمين غير المتقنيين للعربيه.

بمناسبه تغير طرق الكتابه عبر العصور، اقرأ هذا الخبر الذي ظهر على بعض الصحف الالكترونيه ومفاده ان  نقوشا عربيه اثريه ثم اكتشافها حديثا وبالالاف في باديه المفرق (في صحراء الاردن) على يد فريق اكاديمي من جامعه اكسفورد البريطانيه.

والخبر مفاجيء ولكنه ليس مدهشا، لأن صحراء الاردن ما هي الا امتداد للهلال الخصيب حيث عاشت حضارات “عربيه” كثيره سادت ثم بادت قبل اكثر من ثلاثه الاف عام على اقل تقدير، وكانت لكل منها لغتها المكتوبه على شكل نقوش صخريه لابد ان الكثير منها لا يزال قابعا تحت رمال الصحراء في انتظار من ينبشه من احفاد ملوك العرب القدماء، او على الاقل من باحثي جامعه اكسفورد حيال كسل احفاد ملوك العرب القدماء.

ومغزى سياق الخبر هاهنا هو لفت النظر الى ان الكتابه “العربيه” موغله في القدم، لدرجه انها في بداياتها كانت يكاد لا يربطها بالكتابه العربيه الحديثه اي وجه تشابه على الاطلاق، حيث الكتابه النبطيه والخط الحوراني الموصول، والكتابه المسماريه ولغه حضاره سبأ وكنعان والحضاره الثموديه والصفائيه، كل هذه الانظمه الكتابيه يمكن اعتبارها جذورا للكتابه العربيه الحديثه. وعلم اصول اللغات المكتوبه القديمه واسع متشعب، وشيق ممتع لمن يحب التبحر فيه، وانما نذكره هنا على عجاله لوضع الامور في نصابها الزمني. اذا فالكتابه العربيه المعاصره حلقه في سلسله طويله من انظمه الكتابه التي تطورت شيئا فشيئا عبر الزمن.

ولكن هذه الحلقه الطويله قد توقّفت عن التسلسل، وتجمّدت في مكانها في مرحله تاريخيه معينه تبعا لظروف واعتبارات سياسيه واجتماعيه، فما عادت طريقه الكتابه العربيه تتطور لتواكب تتابع العصور، وهنا مربط الفرس!

لنقف اذا على اخر حلقات تطوّر الكتابه العربيه، وهي التطورات التي ابتكرها المسملون الاوائل لتجهيز لغتهم لدخول افاق العالميه بعدما اصبحت فجأه اللغه الرسميه لامبراطويه بعدما كانت مجموعه لغات لقبائل صحراويه لا قيمه لها.

فقد كانت اساليب الكتابه العربيه قبل الاسلام مباشره متعدده، بدائيه، وغير موحده. واليك كمثال نقش من شرق دمشق يعود الى القرن السادس الميلادي:

ابراهيم بن مغيره الاوسي

ارسلني الحرث الملك على

سليمن {سليمان} مسلحه {مُسلّحه} سنت {سنه}

423 {بالتقويم النبطي، اي 528 ميلادي}

كتابه عربيه قبل الاسلام
المصدر

لاحظ الاختلاف الجذري في شكل الحروف عما نألفه. وكان اول ما ابتدعه المسلمون الاوائل بعد ذلك هو توحيد شكل الاحرف على نهج قبيله قريش. لتصبح الكتابه بالـ”خط المكّي” هي المعتمده للدوله الاسلاميه الجديده:

 

بسم الله الرحمن

الرحيم قل اعوذ

برب الناس ملك

الناس اله الناس من

شر الوسواس الخنا

س الذي يوسوس

في صدور الناس

من الجنه والناس

 مصحف عثمان، القرن السابع الميلادي. المصدر

 

 

وبعدها ابتكر يحيى بن يعمرنقاط الأعجام (اي النقاط على الحروف) ليساعد العجم على التفرقه بين الحروف مثل (ب ت ث، ف ق، ع غ) والتي كانت متماثله في الرسم تماما قبل ذلك الابتكار. والتسميه “نقاط الاعجام” تعني حرفيا “النقاط التي تساعد الاعجام على قراءه الكتابه العربيه”:

وبعد ذلك ابتكر ابو الاسود الدؤلي نقاط الاعراب، وهي نقاط كانت توضع على الكلمات بلون مختلف عن لون نقاط الاعجام، كي تساعد العجم على تشكيل لفظ الاحرف من فتح او ضم او كسر:

ثم ابدع الفراهيدي عندما بدّل نقاط الاعراب بحركات التشكيل على الرسم الحالي (فتحه ضمه كسره) واضاف الشده و السكون، كما اخترع رسم الهمزه ليساعد العجم على لفظ الالف لفظا صحيحا بحسب السياق:

ثم عمل المسلمون في العصر العباسي وبعده على الخط العربي فابتدعوا الخطوط المعاصره التي تسهّل قراءه النص وتحوّله الى قطعه فنيه بعدما كان ثقيلا على النظر:

ثم جاء سيبويه فأصّل علم النحو واصبحت للعربيه “قواعد” بعدما كانت لغه السليقه.

ثم مات سيبويه وماتت الامه العربيه وتحنطت اللغه واصبحت طريقه كتابتها شيئا مقدسا غير قابل للتحديث.

وكحال كل شيء لا يعمل ابناؤه على تحديثه، تردّى الحال بالعربيه حتى اوشكت على الانقراض تحت منافسه لغات اخرى دؤب ابناؤها على تطويرها وتسهيلها وتسويقها كمنتج عصري. فالانجليزيه مثلا تحولت عبر القرون الخمسه السابقه من لغّه فظّه صعبه التعلم كثيره الشواذّ الى اللغه المعتمده للعالم بأسره، لانها تطورت بشكل يتماشى مع تكنولوجيا المعلومات الحديثه، وتخلصت من الكثير من مناحي الصعوبه فيها فأصبحت سهله مرنه بما يتماشى مع عصر السرعه والعولمه.

نحن هنا في تجربه عربينا بصدد اعاده ابتكار طريقه كتابه اللغه العربيه، كخطوه اولى على طريق انقاذ لغتنا من شبح الانقراض الذي بات يحوّم حولها.