عربينا

تساؤلات المغترب حول العربيه في المهجر

اللغه كائن حي – 3

استعرضنا في المقالات السابقه امثله كثيره على تطوّر اللغات عبر الزمن، وخلصنا الى ان اللغات (كل اللغات الحيّه) تتبع مسارات متشابهه جدّا في تكيفها مع الازمنه والاجيال على اختلاف  شعوبها ومواطنها. فاللغات بذلك اشبه ما تكون بالكائنات الحيّه، تنمو وتكبر وتتشعب، ثم تشيخ و تهرم لتخلفها اجيال جديده من اللغات الفتيّه التي ترث من اسلافها الكثير من الصفات وان كانت كل منها تستقل بطابعها الخاص.

وغرضي من كل ما سبق من التعمّق في تاريخ اللغات واستعراض المثال بعد المثال حول كيفيات واليات تطورها، غرضي هو تغيير منظور القاريء نحو العلاقه بين الانسان ولغته الام. فلغتنا ليست اثرا تاريخيا ينبغي علينا الحفاظ عليه، بل هي لوحه فنيه غير مكتمله شرع اجدادنا بالعمل عليها ثم سلّمونا الفرشاه والالوان وعهدوا الينا مهمه الابداع فيها من بعدهم. أو بعباره مباشره:

من حقً كل جيل ان يترك بصمته على لغته الام، فيحوّرها ويشكّلها ويلوّنها، ويزيدها بهاءاً قلبا وقالبا، ثم يعيد اليها عنفوان الشباب ويدفع بها الى الامام نحو فضاءات العالم المعاصر. ونحن عرب اليوم لنا وحدنا حق المضيّ قدما بلغتنا العربيه، لا ينازعنا في هذا الحق احد ولا يزايد علينا احد. فهي لغتنا ونحن ابناؤها!

لهذا لا يستنكر احد على اهل الاندلس مثلا ابداعهم لغه الموشّحات وهي لغه مختلفه جدا عن العربيه الكلاسيكيه التي ورثوها عن آبائهم، فلغه الموشحات مرنه خفيفه، فيها تؤثر واضح بالقرب الجغرافي من اللغات الاوروبيه المعاصره آنذاك. وقد خصصنا لجمال لغه الموشحات مقالا سابقا.

وهل استنكر احد مثلا على الكاتب المبدع ابن طفيل انه كان هو ايضا يلعب باللغه لعبا؟ فهاهو يبتدع مثلا لشخصيّته الخياليه (حيّ بن يقظان) صيغه جديده من الفعل “ولد” تناسب خروجه الى حيّز الوجود دون ام تلده، حين كتب:

“ذكر سلفنا الصالح – رضي الله عنهم – أن جزيرة من جزائر الهند التي تحت خط الاستواء، وهي الجزيرة التي يتولّد بها الانسان من غير ام ولا اب، وبها شجر يثمر نساء، …”

و”تولّد” هذه صيغه غريبه على العرب آنذاك اراد منها ابن طفيل ان يلفت انتباهنا الى ان حيّ بن يقظان خرج الى حيّز الوجود من دون ولاده، ولو استعمل الصيغه المبنيه على المجهول “وُلد” للزم من ذلك ان هناك والد. فالقران يقول ان الله “لم يولد” بمعنى ليس له والد، وابن طفيل يزيد “بل تولّد” اي وجد من دون والد.

وهذه الصيغه الجديده اصبحت من لوازم لغتنا الحديثه حينما لزم الكلام عن ما يوجد ولا يولد، كما في “تتولّد الطاقه”.

انظر ايضا في نفس الجمله استعماله لـ”رضي الله عنهم” بالمعنى العفوي: الدعوه لشخص برضى الرب عنه. وذلك قبل ان يتحجّر المصطلح مع الزمن فيصبح لقبا محتكرا لاشخاص بعينهم هم جيل المسلمين الاوائل.

وبالمناسبه، ارجوك ان تقرأ روايه “حيّ بن يقظان”، وغيرها من نتاج عصر الادب العربي الذهبي، مثل “الف ليله وليله”. وان كنت قرأت تلك الاعمال فأعد قراءتها مع التركيز على اللغه. عندها سوف ترى كيف كانت اللغه طيّعه مرنه في ايدي ابنائها آنذاك…. وهي بالمقارنه صلبه خشبيه في ايدينا نحن اليوم.

لغتنا “العربيه” اذا هي حصيله الحيوات التي سبقت وجودنا من الاجداد واجداد الاجداد، ومن حقّنا نحن عرب اليوم وقد ورثنا الرايه من هؤلاء ان نتعامل مع لغتنا كمعجونه مرنه نعيد تشكيلها بما يناسب مقتضيات حياتنا، او كبناء معماري لم يكتمل بعد، اسسه اجدادنا ومن ثم تركوا لنا وحدنا احقّيّه الاضافه عليه.

من هذه القاعده الفكريه ستنطلق تجربه “عربينا”. نحن اذا بصدد محاوله جادّه وجريئه لبناء منظومه لغويه عربيه مناسبه لدنيا اليوم. ولنبتديء بطريقه الكتابه {orthography} في الحلقه القادمه، فتابعونا!