استكمالا للحديث السابق عن اليات وكيفيات تطوّر اللغات عبر العصور، كنا بدأنا باستعراض التماثل العجيب في المسارات التي تتبعها اللغات في تطورها بالرغم من تنوّع اللغات واختلاف شعوبها ومواطنها.
هناك مثلا ظاهره شائعه في حياه اللغات تتمثل في انقلاب بعض التراكيب رأسا على عقب {reversal} بطريقه توحي بانقلاب المعنى، غير ان المعنى المراد يبقى ثابتا لا يتغير:
اللغه | التعبير القديم | التعبير الحديث (بنفس المعنى) |
---|---|---|
English | “The music likes you not?”Shakespeare ~1600AD | “You don’t like the music?”~2000AD |
العربية | القاضي العادل يستبدل الحق بالباطل | القاضي العادل ببدّل الباطل بالحق |
وتُناظر هذه الظاهره ظاهره اخرى شائعه تتمثل في ثبوت المفردات مع انقلاب معانيها عبر العصور. ما رأيك مثلا ان كلمه {fast} التي توحي اليوم بالحركه السريعه، كانت قديما تحمل معنى الثبات؟! لا يزال لهذا المعنى بقايا في اللغه المعاصره في تعابير مثل {fasten your seatbelt} اي ثبّت الحزام في مكانه! او في اوصاف مثل {I am steadfast in my position} اي ثابت لا اتزحزح. تطرقت في السابق لبعض التعابير العربيه التي تغيّر معناها من اللغه الرسميه الى اللغه اليوميه بنفس الطريقه، وها انا اعيد ذكر بعضها هنا:
اللغه الرسميّه | اللغه اليوميّه |
---|---|
خذ هذا الدواء بالصحّه والعافيه | مصري: مش عاوز. هوّه بالعافيه؟؟ (اي بالاجبار) |
سوف اقضي عليك يا وغد! | جزائري: جينا نقضي عليك (اي نتسوّق عندك) |
لا تحسبي اني هجرتك طائعا، حدث لعمرك رائع ان تُهجري (اي مروّع) | خليجي: رائع بحبك رائع، لو تعذّبني (اي باهر) |
شاطر: قاطع طريق | شاطر: ذكي |
وفي ظاهره لغويّه اخرى، غالبا ما يتطور استخدام اللفظ الدالّ على الاصل المكاني فيشيع استخدامه للدلاله على السببيه، وذلك لان الاصل المكاني للاشياء هو في الغالب سبب حدوثها ايضا. انظر كيف تتبع لغات متنوعه هذا المسار:
اللغه | الاصل المكاني | السببيه |
---|---|---|
English | I come from Jordan | I am shivering from cold |
Francais | Je viens de la Jordanie | Je tremble de froid |
العربية | انا قادم من الاردن | انا ارتجف من البرد |
ّّّ
واستعاره تعابير المكان لاغراض مجازيه ظاهره شائعه جدا في حياه اللغات بما فيها العربيه. انظر مثلا كيف تعددت استخدامات حرف الجرّ “في” عبر العصور متجاوزه المعنى الاصلي:
تطوّر معنى “في” | مثال |
---|---|
الاصل: الظرفيه المكانيّه {inside} | “لا يجتمع في جزيرة العرب دينان” |
⬅︎ الظرفيه الزمانيه {within} | “في ليله، في يوم، في ساعه ودقيقه” |
⬅︎ الكينونه {is} | “في عندي سؤال”، “ما في فايده” |
⬅︎ الامكانيه {can} | “فيك تساعدني؟”، “انا ما فيي حبك اكتر من عينيي” |
ولا تقتصر الاستعاره على تعابير المكان بل قد تتعداها لتشمل كل انواع المفردات. انظر مثلا الى رحله كلمه “قدّ” العربيه عبر العصور:
تطوّر معنى “قدّ” | مثال |
---|---|
الاصل: قوام {figure} | “قدّك الميّاس يا عمري” |
⬅︎ مقارنه القوام {as big as} | “قدّه قد الفيل” -> “رجل قدّ الفيل” |
⬅︎ مقارنه اي بعد فيزيائي {as tall as} | “طوله قدّ طول الزرافه” -> “طوله قدّ الزرافه” |
⬅︎ اي مقارنه {as much as} | “كل قدّ ما بدك”، “قدّيش الساعه؟” |
وعلى العكس من الامثله الماضيه تفقد بعض التعابير شعبيتها على الدوام ويبدلها الناس بتاعبير اخرى بدافع حب التغيير او الاختلاف. انظر مثلا كيف فقد الفعل {to think} كثيرا من استعمالاته القديمه التي استبدلت اليوم بافعال اخرى:
21st Century English |
19th Century English |
---|---|
Do you find me handsome?
|
“You examine me, Miss Eyre,” said he: “do you think me handsome?” – Jane Eyre 1847 |
Do you take me for a fool? |
Do you think me a fool?
|
وباستخدام خدمه Google Ngram Viewer بامكاننا ان نتتبع مثلا كيف فقدت كلمه مثل {wicked = extremely unpleasant} شعبيتها عبر القرون الماضيه، وبدأ الناس باستبدالها بتعابير جديده مثل {nasty}:
او لاحظ كيف تم بعث كلمه فقدت شعبيتها مثل {gay = happy} بمعنى مختلف تماما خلال بضعه عقود عشناها جميعا:
بالاضافه الى اكتساب او فقدان معان ومفردات عبر العصور، كثيرا ما تخلق تعابير لغويه جديده عن طريق اندماج عده كلمات معا في كلمه واحده جديده {fusion}. والسبب في الغالب هو ورود تلك الكلمات بنفس التتابع بكثره في اللغه، حتى تصبح في ذهن الناس (وبالتالي على لسانهم) لفظه واحده بدلا من عده لفظات متتاليه. انظر الى الامثله التاليه لتعابير تم ادماجها بالكامل حتّى اصبحنا نعتبرها كلمات مفرده:
- آنذاك، سامرّاء، عندئذ، لولا، كيفما، …
- understand, yesterday, within, nevertheless
وبالطبع لا تزال اللغات تعمل بدأب على دمج تعابير اخرى لتصنيع كلمات جديده على مرأ ومسمع منّا:
- gonna <- going to
- راس مال -> راسمال
وكمثال من اللغه الفرنسيه، انظر الى الرحله التي قطعها تعبير “اليوم” عبر العصور حتى وصل الى الحال الذي هو عليها اليوم:
المعنى الحرفي |
التعبير |
العصر |
---|---|---|
This day
|
hoc die
|
Latin |
This day
|
hodie
|
➡︎ fusion |
This day
|
hui | ➡︎ erosion |
On the day of this day
|
au jour d’hui | ➡︎ Old French |
On the day of this day
|
aujourd’hui | ➡︎ Modern French |
On the day of on the day of this day
|
au jour d’aujourd’hui | ➡︎ Spoken slang |
وحتّى هذه الرحله الزمنيه (من اللغه اللاتينيه الى فرنسيه اليوم) تعتبر قصيره بالنسبه لقصّه اللغه العربيه الموغله في القدم. فاللغه “الفصحى” نفسها مر عليها زمن لم تكن فيه الا لهجه عاميه لقبيله قريش في زمن انحدرت فيه لهجات القبائل من “فصحى” اقدم وافصح.
ما رأيك مثلا ان الالف في بدايه الفعل المضارع (أكتب، أمشي، أسرق) ما هي الاّ ادماج لضمير المتحدث “انا”، اي انّ تعبير “أكتب” لم يكن يوما سوى طريقه عاميّه لاختصار التركيب اللغوي “أنا-كتب” في لغه ساميّه اقدم من الفصحى التي نعرفها! وادماج الضمير مع الفعل بهذه الطريقه آليه شائعه نراها تعمل اليوم على بعض صيغ الافعال في الفرنسيه: {Je aime -> J’aime}
وبالمناسبه فإن تلك اللغه الساميّه القديمه التي انحدرت منها العربيه الفصحى، لا بد انها كانت لغه دارجه قبل خمسه الاف عام على الاقل، كما انها كانت تحتوي بالتأكيد على حرف {p}، لان الكثير من اللغات التي انحدرت منها احتفظت بهذا الحرف، امّا العربيه فقد استبدل ابناؤها حرف {p} بحرف {f} للتخفيف، تماما كما استبدل المصريون لاحقا حرف الجيم بلفظ مخفف {jamal -> gamal}.
هي آليات ما انفكت تعمل على تحوير اللغه منذ العصور الساحقه وحتّى اليوم وغدا، وما اللغه "الفصحى" الا حلقه واحده في سلسله طويله جدا من اللغات جيلا بعد جيل
وتحوّر {p} الى {f} منوال شائع في حياه اللغات بالمناسبه، مرّت به الانجليزيه دونا عن قريبتها الفرنسيه، لذلك نجد الكثير من الكلمات القديمه التي تبدأ بحرف {f} في الانجليزيه تناظرها كلمات فرنسيه تبدأ بحرف {p}
Francais | English |
---|---|
Père
|
Father |
Pied |
Foot
|
Poisson |
Fish
|
كما نجد بعض المفردات في الانجليزيه نفسها تناظرها مفردات اخرى تشي عن الاصل اللفظي {p} مقابل {f} مثل {fireworks = pyrotechnics} وغيرها. بالمناسبه فهناك نظريات وقواعد راسخه وضعها علماء اللغه لوصف كيفيات تحوّر الاحرف عبر العصور مثل {Grimm’s Law} وغيره الكثيرون.
نكتفي بهذا القدر من الامثله لان تطوّر اللغات علم واسع جدا، وانا حتما لست من المختصين به بل لا اتعدى مرحله الهوايه وحب الاطلاع. انصحك بقراءه كتاب بديع في هذا المجال بعنوال {The Unfolding of Language} للعالم المختص {Guy Deutscher} وهو كتاب مبسط موجه للهواه امثالي ومنه اقتبست معظم الامثله التي اوردتها لكم عن تطور اللغات اللاتينيه.
فإذا كانت اللغات -كل اللغات- كائنات حيه تتطور وتتغير عبر العصور بلا توقف، فماذا يترتب على ذلك؟ واين يأخذنا منتهى هذه الفكره فيما يخص مستقبل اللغه العربيه؟ فلتناول ذلك في المقال اللاحق، فتابعونا!