شغلتني ظروف عائليه عن افراغ ما في ذهني عن دوره حياه اللغات هذا الاسبوع، ولكن دعوني اشارككم بعض الخواطر عن لغه الشعر والغناء في العصر الاندلسي، والتي خلّدتها لنا “الموشحات” الاندلسيّه.
وانا من عشّاق تلك الموشّحات، واكاد اجزم اننا لو ما عدنا نتداول اللغه “الفصحى” لسبب او لآخر، فستكون الموشًحات الاندلسيه هي اكبر خساره لعمل فنّي في تاريخنا، تفوق برأيي الشخصي خساره المعلّقات الجاهليه او الشعر الحمداني او اشعار الفتره العباسيه او الادب الروائي الحديث الى اخر القائمه.
ولكن هل لغه الموشّحات لغه “فصحى” بمعنى الكلمه؟ ام هل تلاحظ عند قراءتها اختلافات بينها وبين لغه عرب الجاهليه او فجر الاسلام؟ دعونا ندقق النظر في بعض الامثله:
- من موشحه لابن سناء الملك (وهو ليس من الاندلس ولكنه ابدع في الموشحات على الطراز الاندلسي):
أدنُ شيئاً أيها القمر | كاد يمحو نورك الخفر |
أدلال ذاك أم حذر | يا نسيم الروح من بلدي |
خبّر الأحبابُ كيف هم |
لاحظ اولا الاستعمال المبتكر لكلمه “شيئاً”. فالشيء في الاصل هو اي موجود كما في:
“قل شيئا” {something}
ولكن مع الزمن اكتسبت كلمه “شيء” معنى “قطعه او جزء مادي” كما في:
“كل شيئا من الطعام” {a piece of}
امّا في الموشحه فقد استعملها الشاعر بمعنى جديد ففصلها عن الماديّ تماما واصبحت تعني “قليلا”:
“ادن شيئا” {a little bit} ومن هذا التركيب تطوّرت فيما بعد عباره “شيئا فشيئا” بمعنى تدريجيا.
وفي آخر شطر ايضا تركيبه غير تقليديه لجمله اسميه “الاحباب كيف هم” تتبع فعل الامر “خبّر”. فالمتعارف عليه “كيف الاحباب” او “خبّرنا عن الاحباب” او على الاقل “خبّر كيف الاحباب”. امّا ان تبدا بفعل الامر “خبّر” ثم تنشيء جمله اسميه من مبتدأ وخبر تعبّرعن المعلومه التي تريد ان تعرفها، فهذا تركيب لغوي غير “فصيح” وانما واضح التأثر باللغات اللاتينيه. وهو بلا شك المنشأ لعبارات عصريه كثيره مثل “قللي الساعه كام” او “احكيلي هادا مين” اللتين تطابقانه تماما في البناء اللغوي!
- وجاء في موشّحه للسان الدين بن الخطيب:
في ليـال ٍ كتمـت سـر الهـوى بالدجـى لـولا شمـوس الغُـرر مال نجـم الكـأس فيهـا وهـوى مستقيـم السيـر سعـد الأثــر وطرٌ مافيه مـن عيـب ٍ سـوى أنـه مــرَّ كلـمـح البـصـر حيـن لـذّ النـوم شيئـاً أو كمـا هجـم الصبـح هجـوم الحـرس غـارت الشهـب بنـا أو ربمـا أثـرت فينـا عيـون النـرجـس لاحظ الاستعمال المبتكر ل”كما” بمعنى “او شيئا من هذا القبيل” {or so}. وقبل ذلك لم تكن “كما” تستخدم بهذا الشكل لأن “ما” اسم موصول بحاجه لصله وصل تتبعه دائما: “كما قلت لك” او “كما حصل البارحه”. ولكن حذف صله الموصول بهذا الشكل الخلّاق فتح المجال لتطوّر عبارات معاصره مثل “وهيك”
- ومن موشحه أبي بكر ابن زهر الأندلسي :
يا غصـن نقا مكللا بالذهب أفديك من الردى بأمي وأبي إن كنتُ أسأت في هواكم أدبي فالعصمة لا تكـون إلا لنبي والابتكار اللغوي هنا هو حذف الشدّه عن الياء في “نبيْ” فالصواب “نبيّ” ولكن الوزن والموسيقى افضل بحذف الشدّه. ولا بدّ ان هذا التجديد فتح الباب لخفّه لغويه معاصره نعرفها جميعا:
اللغه الرسميّه اللغه اليوميّه ما انا بنبيّ صلّي عالنبيْ اشقيّ ام سعيد هادا ولد شقيْ حدثنا عليّ بن ابي طالب صاحبي اسمه عليْ
وهذا ابتكار جريء بالمناسبه لأن الشدّه ليست حركه اعراب وانما هي حرف ياء كامل والياء هنا لام الفعل وجزء لازم من الكلمه.
ولكن شعراء الاندلس ضربوا بالياء اللازمه وبغيرها من اللوازم اللغويه عرض الحائط، ولم لا؟ فها هي لغتهم استحالت ليّنه طائعه بين ايديهم فجددوا عليها وغيروا وقلبوا واحدثوا، وابدعوا لنا الموشّحات التي كانت في زمانهم “عاميّه” واصبحت في زماننا اغلى ما نملك من التراث!
اقرأ الموشحات مجددا ودقق النظر في ليونه اللغه. لاحظ كيف البسوا الكلمات معانٍ جديده غير مسبوقه مثل الـ”بوح” والـ”وصل”. ستخطر لك عندها فكره ممتعه:
لغه موشّحات الاندلس ليست عربيه فصيحه كلغه المعلقات، وانما هي حلقه وصل بين العربيه القديمه والعربيه الدارجه اليوم
هي اذا احفوره خلّدها لنا الزمن، نستطيع من خلالها الاطلاع على مرحله من مراحل تطور لغتنا. ولا بد ان هناك مراحل اخرى كثيره، في دوره حياه اللغه العربيه الطبيعيه. ولنلتفت اذا الى كيفيه وكميّه تحوّر وتطور اللغات عبر الزمن، في الحلقه القادمه. فتابعونا!