منذ القدم والى ان بزغ فجر عصر تكنولوجيا المعلومات الحديث، كان اتجاه الكتابه غير ذي شأن، وبطبيعه الحال تنوعت اتجاهات الكتابه بتنوع الحضارات. فكانت بعض اللغات تكتب من اليمين الى الشمال مثل الاراميه وبناتها اليهوديه والعربيه والسريانيه والمندائيه، وكتابه Hangul في كوريا، والكتابه السامريًه القديمه. وكانت بعض اللغات الاخرى تكتب من الشمال الى اليمين كاللاتينيه وبناتها، ولغات جنوب اسيا كالهنديه والسنديه والسنسكريتيه ولغه Nepal.
حتى ان الكثير من اللغات القديمه كانت تجمع الاتجاهين، فتنقش على الحجر سطرا من اليمين الى الشمال فسطرا بالعكس من الشمال الى اليمين. ومن الامثله على تلك الطريقه الغريبه في الكتابه لغه اهل سبأ في اليمن، واللغه الفينيقه واليونانيه القديمه. ولعل الدافع وراء ذلك النظام العجيب في الكتابه يمليه واقع تكنولوجيا المعلومات البدائي في تلك العصور: فالكتابه كانت تنقش على احجار ضخمه تستعمل كجدران للمعابد والقصور، وكان لا بد للقاريء الذي يقف قريبا من الجدار ان يمشي من اول السطر الى اخره حتى يقرأه كله، ثم اذا انتهى منه قد يحتاجه الانتقال الى بدايه السطر الثاني ان يعود ادراجه مشيا على الاقدام، فكانت بدايه السطر في الاتجاه المعاكس لتجنب القاريء مشوارا اضافيا من اول الغرفه الى اخرها بعد كل سطر يقرؤه!
امّا لغات شرق اسيا القديمه فكانت معظمها تكتب بسطور عموديه من الاعلى الى الاسفل، ثم من اليمين الى الشمال. يشمل ذلك نظامي الكتابه في الصين واليابان قديما.
ثم اذا جاء العصر الذهبي لاحفاد اللغه العربيه دفعوا تكنولوجيا الكتابه الى الامام بخطوات متسارعه، حيث طوّروا على ما تعلموه من الحضاره الصينيه فجعلوا تحضيرالحبر وورق الكتب صناعه ممنهجه، وجعلوا نسخ الكتب يدويا حرفه يمتهنها مختصون اكفاء، فنشروا في العالم فن تصنيع المخطوطات على مدى ونطاق غير مسبوقين. فحق لهم بسبب ذلك فرض طريقتهم في الكتابه على حضارات العالم، وظهرت انظمه كتابه كثيره توافق العربيه في اتجاه الكتابه من اليمين الى الشمال، مثل الفارسيه، وكتابه بشتو الافغانيه، وكتابه Punjabi في باكستان، وكتابه Malay القديمه في جزر اندونيسيا، والتركيه العثمانيه وغيرها وغيرها.
كذلك يكون اثر اهل الحضاره المتفوقه على العالم. فالعرب آنذاك بالرغم انهم لم يفرضوا على العالم عنوه اتجاه الكتابه من اليمين الى الشمال، الا انهم قدموا للعالم تكنولوجيا جديده في تصنيع الكتب والمخطوطات تتطلب الانصياع لنظام الكتابه العربيه حتى يسهل تطبيقها. وبالفعل انصاعت الكثير من الحضارات للنظام الموحد الجديد حتى تحصل لها الفائده فتلحق بركب تكنولوجيا المعلومات.
ثم غرق احفاد اللغه العربيه في سبات عميق وسطع نجم احفاد اللغه اللاتينيه في اوروبا الغربيه والامريكيتين، فجاءت على ايديهم ثوره تكنولوجيا المعلومات في القرون الخمسه الماضيه بدءا بآله الطباعه في المانيا والتي خصصنا لأثرها على العالم مقالا سابقا، مرورا بالتلغراف ولغه Morse Code المبنيه على اللاتينيه، ثم تكنولوجيا حمل النصوص على امواج الراديو (Radio Transmission)، ثم الآله الطابعه (Typewriter) ثم اول آله الكترونيه (Turing Machine) ثم اول جيل من اجهزه الكمبيوتر العمليه (Main Frame) ثم تكنولوجيا الطباعه الالكترونيه (Printers) ثم ثوره الكمبيوتر الشخصي (PC) ثم تكنولوجيا الاجهزه الذكيه التي عشناها ولا نزال نعيشها في حاضرنا نحن جيل اليوم.
إزاء ذلك السيل الجارف من الابداعات المذهله والتي تعتمد اجمالا على نظام الكتابه اللاتينيه، كان لا بد للكثير من حضارات العالم ان تسجد وجلا وتغيرانظمه كتابتها لتوافق الكتابه اللاتينيه من الشمال الى اليمين. وإليك بعض الامثله على لغات خضعت لهذا التغيير عبر القرنين الماضيين فقط:
- اللغه الصينيه والتي كانت تكتب عموديا من الاعلى الى الاسفل. ظهرت اول مخطوطه باتجاه الكتابه اللاتيني عام 1815، حتّى اعتمدت الدوله اتجاه الكتابه اللاتيني رسميا عام 1956. المصدر
- اللغه اليابانيه والتي كانت تكتب عموديا من الاعلى الى الاسفل. انتقلت الى اتجاه الكتابه اللاتيني في عهد Meiji بين 1868 و 1912. المصدر
- اللغه الكوريه والتي كانت تكتب عموديا من الاعلى الى الاسفل. انتقلت اول جريده الى اتجاه الكتابه اللاتيني عام 1988 ثم ساد ذلك النظام تماما في التسعينات. المصدر
- اللغه التركيه والتي كانت تكتب بأحرف عربيه من اليمين الى الشمال ثم انتقلت الى النظام اللاتيني عام 1928. المصدر
- اللغه الاندونيسيه Malay والتي كانت تكتب بنظام الكتابه Jawi بأحرف عربيه، ثم انتقلت رسميا الى نظام Rumi الذي يتبع النظام اللاتيني من الشمال الى اليمين. المصدر
- اللغه المنغوليه والتي كانت تكتب عموديا بنقش حروفه متصله كالعربيه، حتى اعتمدت الدوله نظام الكتابه السريالي Cyrillic عام 1946 وهو يكتب من الشمال الى اليمين.
وبعد مرور قرنين من الزمان على هذا الحال، اذا بنا اليوم نعيش في عالم تتبع فيه الغالبيه العظمى من اللغات اتجاه الكتابه اللاتيني باستثناء لغات معدوده اكثرها انتشارا العربيه، والتي لم تعصَ على التغيير بفعل جداره احفادها، وانما بفعل تخلّف الناطقين بها عن الركب لدرجه انهم لمّا يغفلوا بعد لحجم الهوّه السحيقه التي تفصل لغتهم عن حاضر تكنولوجيا المعلومات. او ربّما غفلوا ولم يحرّكوا ساكنا لتدارك الموقف بسبب حاله الخدر الحضاري السائده في العالم العربي المعاصر.
اوشك اليوم ان اجزم انه ليست هناك حضاره متقدّمه واحده في دنيا اليوم تعتمد نظام كتابه يخالف الاتجاه اللاتيني، باستثناء اللغه اليهوديه الحديثه (وهو استثناء وجيه بحاجه لوقفه تأمليه ربما في مقال اخر).
فما هي تبعات الاصرار على اتجاه كتابه معاكس للنظام العالمي السائد؟
هي بلا شك عقبه اضافيه تصعّب على ابنائنا في المهجر قراءه وكتابه العربيه. فهم يولدون وينشأون في عالم تكتب فيه اللغه من الشمال الى اليمين، وبعد ان تتعود عيونهم وايديهم على هذا الاتجاه نرمي على كاهلهم مشقّه تعلّم لغه تعاكس كل ما تعوّدوا عليه في المدرسه والبيت والمطعم الشارع وشاشه التلفزيون والكمبيوتر.
بيد ان العاقبه الاكبر تتمثل في تخلّف الكتابه العربيه عن ركب تكنولوجيا المعلومات، لأن تكنولوجيا المعلومات الحديثه مبنيه ضمنيا على اتجاه الكتابه العالمي السائد، بحيث ان على المبرمج او المهندس او المستخدم ان يتكبد مشقّه اضافيه لدعم اللغه العربيه فقط لأنها تكتب باتجاه معاكس. لذلك اضحت وسائل التكنولوجيا التي تدعم اللغه العربيه هي الاستثناء لا القاعده. والامثله على ذلك كثيره، يعرفها كل من يعمل في مجال تكنولوجيا المعلومات:
1. تكنولوجيا الصفحات الالكترونيه (web pages)
- تبرمج الصفحات الالكترونيه باستخدام لغات برمجه (HTML, CSS) تعتمد جذريا على اتجاه الكتابه اللاتيني. وهذا الواقع يكبّد كل من يحاول نشر الكتابه العربيه الكترونيا بمشقّه برمجه استثناءات خاصه فقط للتعامل مع اتجاه الكتابه
- اليك مقاله تشرح بعض متطلبات تجهيز HTML للتعامل مع الكتابه العربيه. لاحظ ان الموضوع ليس سهلا، بل هو مكلف من ناحيه الوقت والجهد
-
بالاضافه الى هذه المقّيدات في انظمه البرمجه المعتمده، لا يستطيع الناشر العربي ان يستفيد من الابتكارات الجديده غير المعتمده ايضا، لأنها هذه غالبا لا تدعم الاتجاه المعاكس للكتابه اصلا. فالعرب اذا محرومون من انظمه bootsrap و weebly و squareSpace و pingendo و blocks و joomla و brix.io و wordPress templates و غيرها وغيرها، اللهم الا بعد ان يتجرع العالم هذه الابتكارات ويتعود عليها ويحوّلها الى انظمه معتمده، ثم يفطن احدهم الى اضافه دعم اللغات “المقاصصه” لانها تخالف الاتجاه السائد.
2- تكنولوجيا Word Processing
لا تدعم برامج الكتابه word processors بسهوله الكتابه بالاتجاه العربي، والنتيجه هي ان الكاتب العربي يتكبد مشقه زائده في كتابه اي مقاله باستخدام MS Word، او جدول احصائي باستخدام Excel، او بحث علمي باستخدام LaTex، او رساله الكترونيه باستخدام Apple Mail، اوعرض بياني باستخدام PowerPoint.
اما البرامج التي لا تتخصص في الكتابه فهي في الغالب لا تدعم الاتجاه المعاكس اصلا، والنتيجه ان الانسان العربي في عصر المعلومات كالسمكه في الصحراء، لا يستطيع ان يكتب كلمه عربيه فوق صوره باستخدام photoshop مثلا، او ان يعطي حساباته اسماء عربيه عند استخدام نظام المحاسبه quickBooks، او ان يسمّي غرف المنزل اسماء عربيه عند استخدام نظام المنزل الالكتروني SmartThings، او او او…
3- اما الهواتف الذكيه والاجهزه المحموله والملبوسه فحدّث ولا حرج. فهي بلا استثناء لا تتعاطى مع الكتابه من اليمين الى الشمال في اول او ثاني جيل، ويترتب على ذلك ان المستخدم العربي بحاجه للانتظار نحو عام في المعدّل حتى يستطيع ان يتعاطى لغته الام مع الجهاز الحديث. ينطبق هذا على اجهزه iPhone و iPad و Galaxy و HTC و Surface و Nexus و Kindle و غيرها وغيرها
4- لغات البرمجه
لا يوجد في العالم مترجم لغه برمجه واحد (compiler) يدعم اتجاه الكتابه العربيه. ويترتب على ذلك ان المبرمج العربي محروم من استخدام لغته داخل البرامج التي يكتبها، ولا حتى كرموز للمتغيرات البرمجيه (variable names)
كل تلك العقبات، ما الداعي لها؟ هي من الضروري ان نكتب العربيه بالاتجاه التقليدي؟ ماذا يمنعنا من الانصياع للاتجاه العالمي للكتابه؟ هل هناك قيمه عمليه او معنويه لاتجاه دون اخر؟
عربينا كنظام كتابه جديد، فرصه لاعاده النظر في الصفات الاساسيه للكتابه، ومحاوله لمؤالفه العربيه من العصر الحالي. يترتب على كل ما سبق الخيار التالي:
كتابه عربينا تعاكس اتجاه الكتابه العربيه التقليدي، وتعتمد اتجاه الكتابه العالمي من الشمال الى اليمين
4 comments for “اتجاه الكتابه”